يوميات الكوفية

يوميات الكوفية

يقولون يا سيدي أن الحياكة مثلها مثل الطهو: فعل حب.
فحينما تريد أن تحيك شيئًا لأحد،
لابد وأن تتذكره في كل غرزة،
بحيث يختبىء حبك له بين الخيوط فـيمنحه دفئًا مضاعفًا.

اليوم الأول:
لونك المفضل هو الأزرق.. لذا آتي بشَلَتي صوف أحمر لأبدأ الحياكة.
أضع الإبرتين والصوف أمامي وأنظر لهم قليلًا.
أعتدل في وقفتي قائلة بصوت عالٍ:
"على فكرة بقى.. الكوفية دي مش ليك!"
أحرص على أن يكون صوتي حازمًا وواضحًا
حتى يتمكن من عبور ال3672 كيلومترًا التي تفصلنا (أيوا حسبتهم!).

اليوم الثاني:
أبدأ في الحياكة.
الإبرتان جديدتان لم تتعود عليهما يداي بعد.
أنحيك عن ذهني تمامًا.
أبدأ في لف الخيط حول الإبرة لأبدأ أول غرزة، الثانية، الثالثة.
أزهو بنفسي لأنني وصلت للغرزة الثالثة بدون التفكير فيك تمامًا.
أتوقف فجأة عاقدة حاجبيّ لأتسائل:
"هل إذا فكرت في أنني لا أفكر فيك، يعتبر ذلك تفكيرًا فيك؟!"
لا أتوصل لشيء سوى "أُف" مغتاظة واستكمل الصف بعصبية.
خمسون غرزة كما نصحتني صديقتي حتى لا تكون عريضة جداً أو "كِنزة" جدًا...
أبدأ في الصف الثاني ولم تزل الإبرتان غير طوع يدي..
أفكر في أن السبب لابد وأن يكون البرد...

أخرج من غرفتي لأحضر المدفأة الكهربائية.
أضعها في المقبس ولكنها لا تعمل.
أخرج السلك، أدخله، أحركه، أضغط على الأزرار بدون فائدة.
أقف قبالتها صامتة تنتابني رغبة عميقة في "تدشيشها مليون حتة"،
ولكنني أقاوم تلك النزعة التدميرية وأكتفي بإلقائها خارج الغرفة
حتى لا تستمر في إغاظتي ببرودها المعدني.
أعود للصوف والإبر مستكملة بعض الصفوف ولكن بدون "مزاج".
أضجر وأضعهم جانبًا.

اليوم الثالث:
أكتشف أن الصفوف التي قمت بحياكتها بالأمس بشعة تمامًا.
أؤنب نفسي لانتهاكي القاعدة المقدسة "مفيش مزاج.. يبقى مفيش تريكو".
أحل كل ما قمت به بالأمس لأبدأ من جديد.
غرزة، إثنين، ثلاث، ورغماً عني أبدأ في التساؤل عمن ستكون تلك الكوفية من نصيبه،
فأدرك أنني لا أحيكها لأحد على وجه التحديد.
تبدأ الإبرتان في معاندتي من جديد، وكأنه قد نبتت لهما إرادة خاصة؛
فتصبح "المقلوبة" "معدولة" و"المعدولة" "مقلوبة"،
وفي المقابل أعاندهما وأستمر في الحياكة.
تشتد الحرب بيني وبينهما وتكون الضحية الوحيدة
هي قطعة التريكو المسكينة التي تأبى عليها الأقدار أن تتحول لكوفية.
تُرفع أول راية بيضاء من طرفي عندما أدرك عبثية الموقف.
أضع كل شيء جانباً وأنا على يقين من أنني غدًا سأحل كل ما قمت به اليوم.

اليوم الرابع:
كما توقعت، أبدأ بحل ما قمت به بالأمس.
تبدو الخيوط المستعملة شبه مهترئة نتيجة لمرتين من الحياكة والحل.
أبدأ بهدوء مرة أخرى،
وللحظة تخطر لي فكرة أنه لابد وأن الإبر تفكر فيك!
"أيوا! أيوا! هي لازم الإبر بـ تفكر فيك!"
فلأنني -بالطبع- قد نحيتك عن ذهني تماماً منذ البداية،
لابد وأن ذلك التناقض في تيارات التفكير هو المتسبب في ذلك التنافر بيني وبين الإبر.
أظل على موقفي وأستمر في الحياكة،
يبدو وكأن شلتي الصوف قد انضمتا للمؤامرة؛
فتتعقد مني الخيوط وتتشابك بحيث يستحيل حلها تلك المرة.
أجز على أسناني وأقذف بهم على الأرض،
أخرج من الغرفة وأنا حانقة على التريكو والإبر والصوف وعليك.
أتفرج على التليفزيون قليلاً حتى ينتصف الليل وينام كل من بالمنزل.
أنسحب إلى تحت بطانيتي الثقيلة،
ويتحول حنقي تدريجياً إلى دموع مختنقة،
فكم هو عبثي ألا أتمكن من حياكة كوفية بدون وجودك في الخلفية،
أحدث نفسي: "دي كوفية.. هي حتة كوفية!"
يتسلل النوم قليلًا قليلًا إليّ، فأغفو.

اليوم الخامس:
يفتر فمي عن ابتسامة صغيرة قبل حتى أن أفتح عينيّ؛
في واقع الأمر أنا لا أريد أن أفتح عينيّ، فقد حلمت بك.
جئتني مبتسماً كالعادة،
أخبرتني أن لونك المفضل مايزال هو الأزرق،
وأن المسافات -حقاً- لا تعني أي شيء.
كان حلمًا قصيرًا، ولكنه كان كافيًا.
أقفز بـخفة من فوق سريري لأفتح دولابي وأخرج شلتي صوف أزرق.
أقربهما من فمي لأهمس لهما باسمك،
ثم أنحني لألتقط الإبرتين من على الأرض،
أستخلص منهما عقدة الخيوط الحمراء وأضعها جانبًا.
أبدأ في لف الخيط الأزرق حول الإبرة، وأبدأ في الحياكة.
تنساب الصفوف الزرقاء بين يديّ بنعومة وأنا أعد:
واحد... إتنين... تلاتة... أربعة... خمسة...

x
تنويه القصص الموجودة على هذا الموقع قد تسبب للبعض شعور بعدم الارتياح أو الألم. في حالة شعورك بذلك، تذكر أن تتنفس، وأن تأخذ بعض الوقت مع ذاتك قبل مواصلة القراءة، أو بالتوقف عن القراءة إذا استدعى الأمر