فتاة القطار

"يا للجو الرومانسي الساحر، إنه خطر داهم.
لو مشيت في هذا الجو مع أية فتاة في العالم لتخيلت أنك تحبها". - أحمد خالد توفيق

كان يوم الأربعاء، كنت يومها صباحًا بجامعتي
وبعد أن أنهيت محاضراتي، توجهت إلى ميدان التحرير
ووجدت نفسي أسير على كورنيش النيل لمدة تقارب الساعتين
حينها أدركت أنه يجب عليَّ التحرك
والتوجه إلى مكان الندوة التي سأحضرها هذه الليلة.

وهكذا ذهبت إلى الندوة، وقابلت فيها العديد من الأصدقاء
والذين أصرُّوا على عدم تركي أذهب هكذا فورًا بعد الندوة
بل وأصر أحدهم على أن أبيت معه، إلا أنني اعتذرت عن العرض في أدب
وهكذا توجهنا إلى محطة القطار في رمسيس، لأحجز في آخر قطار متجه إلى مدينتي.

كانت الساعة حينها الثامنة مساءًا، وموعد القطار في العاشرة والنصف مساءًا
وكالمعتاد لن يصل القطار قبل الحادية عشر إلا ربع
وبعد فسحة قصيرة في شوارع القاهرة، بسبب ضيق الوقت، تم توديعي على محطة القطار
وركبت القطار رقم 935 القادم من الأقصر مارًا بالقاهرة، ثم طنطا، ثم محطته الأخيرة في الإسكندرية.

فى مقدمة عربة القطار، يوجد كرسي بمفرده على الصف الأيمن
وكذلك كرسي آخر على الصف الأيسر
اعتدت دائمًا أن أبادل مقعدي مع أحد الجالسين
إلا إنه -ولأول مرة- أجد مقعدي أحد هذان المقعدان
هكذا جهزت نفسي، أخرجت سماعاتي، وأوصلتها بالموبايل
وها هو ملف أغاني فيروز .. رائع.

أُخرج رواية هاري بوتر والأمير الهجين، الرواية بالإنجليزية
أحاول أن أبدأ في القراءة باللغة الإنجليزية، لتطوير لغتي الإنجليزية
وهكذا بدأ القطار في التحرك
التفت إلى يميني، والتقطت عنوان"The Da Vinci Code"
رائع، أحدهم يقرأ بالإنجليزية أيضًا، بل ويقرأ رائعة المؤلف الأمريكى العبقري دان براون
فقط، لأتبين أنها فتاة
نعم، كانت من تقرأ فتاة.

فتاة أعتقد أنها في مثل عمري، ربما أكبر قليلًا
ذات شعر بني مربوط بطريقة "ديل حصان"
ذات بشرة بيضاء، يغطي وجهها القليل من النمش
رشيقة القوام، وجهها يحمل ملامح طفولية ملائكية محببة إلى النفس
تضع هي الأخرى سماعاتها
ترتدي تي شيرت أبيض اللون، وفوقه سويت شيرت بنفسجي اللون
ولم تكن تضع أي من تلك المساحيق اللعينة المسماة “Make up”.

هكذا وجدت نفسي أنسى الموسيقى، والكلمات الفيروزية المنسابة من سماعات الموبايل
وأتناسى الكتاب الذي بين يدي، وأتناسى رغبتي في تحسين لغتي الإنجليزية
وأُطيل النظر في وجهها، رباه
كم أن هذا الوجه البرىء الملائكي رائع
أطلت ربما النظر لأكثر من خمسة دقائق، بدأت بعدها في التفكير، كيف سأكلمها؟

وهكذا بدأت تتوافد إلى ذهني الكثير والكثير من الأفكار الساذجة
فتارة أقرر أن أسألها عن الوقت
وتارة أخرى اقرر أن أنهض، ويسقط الكتاب أمامها وكأن الأمر تم بصورة عفوية
وفى نهاية أفكاري، اكتشفت أنها ساذجة بطريقة غبية
وأنني أعلم أنني جبان، ولن أفعل أى من تلك الأشياء.

وهكذا بدأت أشعر مرة أخرى بالموسيقى وبكلمات فيروز
وواصلت القراءة مرة أخرى
ولا تسألني كيف تنبهت أنها تكلمني، وأنا أضع سماعاتي، ولست منتبهًا إليها
ولكن لنقل أنه شعور انتابني بأن هناك كلام موجه لي، والتفت إليها في لمح البصر
لأجدها تنظر إلي وتبتسم.

سارعت حينها بنزع السماعات من أذني، قائلاً في لهفة بدت واضحة: "نعم؟"
وجدتها تبتسم مرة أخرى،
وتخبرنى أنها كانت تقول أنه يجب علي أن أقرأ الجزء السابع فور الانتهاء من الجزء السادس
عاجلتها بإبتسامة، وأخبرتها بأنني احفظ "سلسلة هاري بوتر" مثلما أحفظ اسمي جيدًا
وأن قرائتي للروايات بالإنجليزية ليس إلا لتحسين لغتي
سارعتني بأن نسختي بريطانية، مفسرة ذلك بأن الأغلفة البريطانية تختلف عن الأغلفة الأمريكية
وتركتها تشرح لي.

الحقيقة، أنني كنت أعرف كل تلك المعلومات التي قالتها
ولكني فقط كنت مستمتعًا بصوتها
ناقشتها بعد ذلك في رواية شفرة دافنشي، وأعمال دان براون عموماً
تطرق بعدها الحديث إلى الكثير من الكُتاب
دعك من الانبهار الذي حدث لها بمجرد معرفتها بمعرفتي الشخصية بدكتور أحمد خالد توفيق
وتناقشنا حول الكثير من كتابات دكتور أحمد
ثم أخبرتني أنه تقريبًا الكاتب العربي الوحيد الذي تقرأ له
لأجدها فجأة في منتصف الحوار تعتذر لي بأدب بالغ أننا نسينا أن نتعرف
وأخبرتني بأن اسمها "حور"
ابتسمت، وأخبرتها بعفوية: "اسم جميل، لايق عليكِ"
ووجدت وجنتيها تحمر قليلاً من الخجل، بدت معها كأنها حورية فعلاً.
أخبرتها أنني أحمد، وأدرس الإعلام
فأخبرتني أنها تدرس سياسة واقتصاد، واتضح أنها تكبرنى بعام إلا بعض أشهر قليلة

امتد بنا الحديث إلى الكثير من الأفلام الأمريكية، والكثير من التعليق على المجتمع الامريكي
خاصة وأنها قضت أكثر من عشر سنوات من طفولتها في الولايات المتحدة الأمريكية
ثم تطرقنا إلى الرئيس الأمريكي الحالي "باراك أوباما"
حينها وصل القطار إلى محطة طنطا
تمنيت معها أن أكمل الطريق إلى الأسكندرية، لكى يستمر الحوار
إلا أنها نبهتني إلى أن هذه محطتي
قلت لها بدهشة مصطنعة: "حقاً؟"
ووجدت نفسي أنزع نفسي بصعوبة من مقعدي قائلاً والبسمة على شفتي:
"أن لقائك فرصة سعيدة جداً للغاية"
وهكذا تركتها، وقلبي يكاد يبكي
إلا أنني سرعان ما تذكرت ذلك الملاك الذي كنت أجلس معها
وأجبرت نفسي على الابتسام.

هنا أدركت الحماقة التي ارتكبتها،
وهي أنني لم أحصل على اسمها حتى كاملاً لإضافتها على الفيس بوك، أو حتى إميلها
وأنني في غمرة سعادتي بمقابلتها، نسيت تلك الأشياء
وهكذا لعنت سوء حظي ذلك، ولكني أثق في ألاعيب الحياة
وأثق أنني سأقبلها في يوم من الأيام
ربما قد أصبح إعلاميًا، وهي قد تعمل في مجال الخارجية، وربما قد نتقابل صدفة
لا أحد يعلم ألاعيب الحياة والزمان
ولكن ما أعرفه جيدًا الآن، أنني يومها سأحرص على أن نتبادل أرقام هواتفنا
وهكذا نظرت إلى القطار رقم 935 الراحل من المحطة حاملاً معه الفتاة
فتاة القطار.

x
تنويه القصص الموجودة على هذا الموقع قد تسبب للبعض شعور بعدم الارتياح أو الألم. في حالة شعورك بذلك، تذكر أن تتنفس، وأن تأخذ بعض الوقت مع ذاتك قبل مواصلة القراءة، أو بالتوقف عن القراءة إذا استدعى الأمر