جاءني صوت أمها عبر الهاتف مستنجدًا
فقد كنت أنا الوحيدة التي أستطيع إخراجها من تلك الحالة
عندما تقرر الدخول إلى شرنقتها.
ذهبت لمنزلها، واستقبلتني أمها مبلغة إياي أنها ستذهب لقضاء بعض حاجياتها
وإلى أن ترجع، سيكون المنزل لنا وحدنا
أنا وهي.
ذهبت الأم، وأخذت أنا طريقي المعهود إلى غرفتها
كان الباب مغلقًا، فطرقته، ودخلت
كان وضع الغرفة مأساويًا حقًا
وللاختصار، لم يكن هناك بالغرفة شيئًا بمكانه سوى النافذة.
تحريت خطواتي حتى لا أخطو على أي من ملابسها، أو أوراقها المبعثرة
كان التراب يعلو زجاج النافذة والستارة القاتمة
وكنت أرى طريقي عبر الغرفة عن طريق شعاع من الضوء المختلس
تحدى تراب النافذة، وقتامة الستائر.
وفي وسط كل ذلك، كانت صديقتي على السرير
متخذة وضعًا جنينيًا تحت البطانية، يخفيها كلها إلا قدميها
التي ظهرتا في شرابها "الموف" العتيد، الذي تحارب به برد الشتاء
اتجهت إليها، وأزلت من فوقها البطانية
رفعت إلي عينين منتفختين ما لبثتا أن برقتا:
"أنتِ جيتي؟"
مدت يديها إلي، فجلست إلى جانبها وأنا احتضنها
ظلت متشبثة بي في صمت حتى أحسست بدموعها تبلل كتفي
كنت أعلم أنها تفتقده حتى النخاع.
أخرجتها من الغرفة، وأخذتها إلى المطبخ
وأجلستها على أحد الكراسي ريثما أعد "مجين" من الكاكاو الساخن
جلسَت على ذلك الكرسي، وعيونها شاخصة وكأنها في حالة "ترانس"
كان منظرها مثيرًا لضحكنا في الأوقات العادية التي لا تنتابها فيها حالة التشرنق
كانت دائمًا ما تخبرني أنها تعلم أنها تبدو "كشحاتين السيدة" في تلك الأوقات.
كان شعرها منكوشًا، مع سويت شيرت بني لا يمت بصلة للبنطلون الأسود
الذي كانت إحدى قدميه عالقة عند ركبتها اليمنى
بينما تتدلى فردته الأخرى لما تحت كعب قدمها اليسرى
وإذا أضفنا الشراب "الموف" مع الشبشب الزهري إلى تلك العيون الشاخصة
فيجب علينا مواجهة الأمر: صديقتي أقرب ما يكون إلى "مجاذيب الحسين"، وليس "شحاتين السيدة".
أحضرت لها مشطًا: "سرحي المأساة الـلـي على نافوخك دي"
تناولت المشط في استسلام، و"سرحت المأساة"
نعم، هكذا أفضل كثيرًا.
أعطيتها "مجها"، وأخذت "مجي"
وخرجنا للفراندة لنراقب شمس الشتاء، وهي تعافر في السحب الكثيفة
جلسنا على المرجيحة التي طالما طارت بضحكاتنا ونحن صغار
وها هي تتحملنا ونحن كبار.
لم تتكلم إحدانا، واكتفينا بالهز البسيط للأرجوحة، وشرب الكاكاو في صمت
استمر حوارنا الصامت لأكثر من ساعة، ثم نظرت إليها وكأني استدرك:
"طب أنتِ نفسك في إيه دلوقتي؟"
التفتت إلي وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:
"نفسي أروح الجنة".